تواصل معنا
المعارض والفعاليات

لحظات ممكنة:
الأعمال الفنية لليث خليل داير
وسجاد عباس

بقلم سارة رودجرز

يقدم معرض ”حدود المدينة“ أعمال فنانَين صاعدَين من مدينة الصدر ببغداد: ليث داير وسجاد عباس. وكلاهما من خريجي معهد الفنون الجميلة ببغداد، وهي مؤسسة درس فيها بعض من أشهر الفنانين المعاصرين في البلاد.

داير وعباس صديقان وزميلان يتعاونان أحيانا، وهما يعملان على مجموعة كبيرة من المشاريع بوسائط مختلطة من فن الرسم على جدران المدينة ”جرافيتي“ إلى المشاريع الحضرية وتركيبات الفيديو. وكما يبرز من عنوان المعرض، فإنّ مجموعة الأعمال تستكشف حدود المدينة والقيود التي تفرضها المدينة على سكّانها في الوقت نفسه. يحاصر العنف الجماعي المرعب مدينة بغداد منذ أكثر من عقد من الزمن، وتدهورت حال الشوارع نفسها حتى تحولت إلى ساحة قتال حدودها مُضلّلة تمثّل خطرًا على الحياة في كثير من الأحيان. وفي غمار الاحتلال المدمر والصراعات الطائفية والحرب الغاشمة ضد داعش والتشريد الداخلي الجماعي، أصبح المجتمع المدني معرّضًا للخطر.

نشاهد في هذا المعرض أعمال فنانَين شابَّين جريئَين يتدخّلان في مدينة يمثّل فيها عدم الاستقرار العنيف تهديدًا مستمرًّا. ومن خلال إدماج المدينة وسكّانها، يُطالب داير وعبّاس مؤقّتًا بجزء من بغداد فتتحوّل مجددًا أنقاض المدينة إلى مكان للإبداع والحوار.

تلتقط الكاميرا أصوات وحركات شارع مزدحم في بغداد يعجّ بالحركة وسلسلة من السيارات المتوقفة، في ما يمثّل عادة ساحة للسيارات المفخخة. تنتقل الكاميرا إلى منظر مجاور مهجور بجوار ساحة خردة للسيارات. يتحرك الرجال والنساء والأطفال بينما تظهر مجموعة من الشباب بأيديهم كاميرات التصوير يدخنون السجائر ويتحدثون بحماس. يقوم أحد الشبان بمرافقة كل من الرجال والنساء والأطفال على حدة إلى برميل من الصفيح مهمل عليه كمبيوتر محمول. يضع كل شخص سمّاعة للرأس ويشاهد لقطات من مشهد تفجير سيارة مفخخة في بغداد: جثث ملقاة على الأرض وصرخات الناجين تخترق الهواء وهم يتعثرون بين الحطام. بعد ذلك يرافق شاب يرتدي كوفية كل مشارك نحو سيارة مدمرة ليشاهد لقطات من شريط يفسّر فيه الفنان وضعيات الأمن والسلامة في حال انفجار سيارة مفخخة. ويُطلب من المشاركين كتابة إجاباتهم بالنقر على لوحة مفاتيح لتظهر الردود تباعا على الشاشة.وتتنوّع ردود المشاركين على موضوع السيارات المفخخة فمنها تصريحات ترثي الموتى وتصريح حزين لطفل يروي أمام الكاميرا قصة أحد أقربائه الذي مات في انفجار سيارة مفخخة، بينما يضحك صديقه بخجل باتجاه الكاميرا.

ومن خلال إدماج المدينة وسكّانها، يُطالب داير وعبّاس مؤقّتًا بجزء من بغداد فتتحوّل مجددًا أنقاض المدينة إلى مكان للإبداع والحوار.

_يستكشف شريط فيديو ليث داير لعام 2014 بعنوان حدود المدينةالمشهد النفسي للعراق في غمار خطر الموت الذي يتهدده باستمرار. منذ الحرب الأهلية في لبنان (1975–1990) ظهرت السيارات المفخخة للدلالة على عدم اليقين العنيف للصراع السياسي في العالم العربي ، وهذا هو الحال بشكل خاص في بغداد اليوم: انفجار يحدث في شارع مزدحم ليبث الرعب في الحياة اليومية ويخلف الموت والخوف.

ومن خلال دعوته للأصدقاء وأفراد العائلة والجيران للتجمع في باحة لخردة السيارات والتي كانت ساحة عنف في عام 2006، وللمشاركة في هذا المشروع، يخلق داير مساحة يستطيع فيها هؤلاء الأشخاص الرد على هذا العنف الفظيع. ومن شأن عزل المشاركين داخل سيارة مهجورة أن يقدم لهم بالمعنى الحرفي والمجازي مساحة خاصة ومنعزلة لكي يردوا على المشاهد والتجارب التي عانوها في حياتهم اليومية، ويحوّل ضحايا تلك الظروف، ولو للحظة فقط، إلى أشخاص يتحكمون في تعابيرهم العاطفية. نشاهد في الفيديو الإحساس بالانتماء الاجتماعي: تجمّع لمشاركين جمعتهم ثقتهم ورغبتهم في المشاركة والإسهام مع الفنان ومع مجموعة الفنانين منهم داير وزملائه الذين يوثقون المشروع. وهكذا يصبح الإنتاج الفني حدثًا مشتركًا يكون بمثابة وسيلة مهمة للتفاعل مع المدينة. وتُمثل السيارة المفخخة وآثارها المدمرة موضوع عمل ثاني أنجزه داير ويتضمّنه هذا المعرض أيضا.

تُظهر الصورة شابا يواجه الحائط ويرتدي قميصا أبيض ملطّخا بالدم. يتّكئ رأسه بلطف على الحائط، ربما في دعاء أو في حالة تأمل هادئ. تبدو الغرفة مهجورة يغطي السخام الأسود جدرانها المتقشرة. تمثّل الأواني المهشّمة العلامة الوحيدة على الحياة المنزلية، وقد تراكمت في أكوام على الأرض: أكواب وأوعية مكسورة ، وطناجر مقلوبة، وبرواز ذهبي فارغ.

الصورة الموضحة أعلاه هي واحدة من 32 صورة تشكل مشروع داير لعام 2016 ، مساحة المقهى.تُعرض الصور في المعرض على جهاز آي باد مثبتًا على قاعدة. تصور كل صورة من الصور الفنان واقفا أمام منازل مهجورة أو بداخلها وبين أكوام من أنقاض البناء في مدينة جرف الصخر التي هجرها السكان خلال الحرب على داعش. ويرتدي داير في كل صورة قميصًا أبيض ملطخًا بالدم، وهو القميص نفسه المعلّق في المعرض فوق قاعدة جهاز الآي باد. وهو قميص داير الذي كان يرتديه خلال انفجار الكرادة عام 2016. نجا داير من الموت أما بقع الدم فهي من الذين ماتوا أو أصيبوا خلال انفجار السيارات المفخخة بالقرب منه. وعلى النقيض من الحركة والأصوات في حدود المدينةيسود صمت حزين في مساحة المقهى: جمود الصور، والقميص الملطخ بالدم الذي لا يرتديه أحد بينما يتدلى بلا حياة على الحائط. وإذ تمثّل حدود المدينة جهدًا جماعيًّا، فإنّ مساحة المقهى قطعة فردية منعزلة، ورسم شاعري لنجاة شخص من الموت وسط مدينة مهجورة. وهي أيضًا صورة للوقت يظهر في حضور الفنان في مواجهة الماضي المهمل، والغياب الذي يخلّفه الموت والحرب. وعلى هذا النحو يطرح مساحة المقهى سؤالا للمستقبل: كيف يمكن للمرء أن يواصل حياته في مدينة أشباح؟ عندما تنتهي الصراعات، أين سيكون الناجون من الموت؟

Sajjad Abbas, 'Don't Shoot Me', Spray paint, Baghdad, Iraq, 2011, ©Sajjad Abbas

بخاخ طلاء أسود في رسم يبرز جدارًا منهارا في المدينة، وشاب يتملكه الخوف وهو يرفع يديه. كُتبت إلى أحد جانبَيه: ”لا تطلق النار عليّ.“ وفي الجانب الآخر شاب أكبر منه سنًّا يرتدي قميصًا عليه رمز السلام باللون الأحمر ويحمل لافتة كُتب عليها ”حُرّ“. وتبدو الهيئة العفوية للشاب الأكبر سنًّا وهو غير مكترث في تناقض صارخ مع وقفة الشاب الأصغر الذي يدافع ببراءة عن حياته. وقّع الفنان سجاد عباس في أسفل الرسم كاتبًا اسمه ”سجاد“.

يستخدم عباس في عمله المؤرخ عام 2011 بعنوان ”لا تطلق النار عليّ“ فنّ الرسم على الجدران (جرافيتي) الذي يُنظر إليه تقليديا كشكل من أشكال الفن المتمرد، ليصبح طريقة لنقد السلطة والصراع. من خلال الجمع بين صورتين متجاورتين، إحداهما لشاب حياته مهددة واخرى لشاب يحمل رموز السلام والحرية، يفضح عباس الوعود الزائفة للاجتياح الأمريكي للعراق عام 2003، وواقع الحياة تحت سقف الاحتلال، والتهديد المتصاعد لداعش، والصراعات الطائفية المتفاقمة. كشهود، يمكننا تخيل المشهد. في مدينة تحرسها القوات الأمريكية يكون نفوذ القوى المحرّكة واضحًا: يمكن لسوء تفاهم بسيط بين أطفال يلعبون في شوارع حيهم القديم أن يتصاعد بسرعة ليتحول إلى تهديد حقيقي مع دوريات أجنبية غير متعودة على اللغة والثقافة المحلية. وهكذا فإن اختيار عباس للغة الإنكليزية خيار جوهري وكذلك استخدامه لضمير المخاطِب أنا الذي يشير إلى حقه في المطالبة بتحالف بين عباس والشباب العراقي. [1] وبالفعل، كان أول عمل أنجزه عباس في مجال الرسم على الجدران في الشوارع قطعة قماش بيضاء كبيرة الحجم مرسوم في خلفيتها جماجم وعظام وطبع عليها عباس رسم عين بشرية. اقتطع الفنان الحروف العربية من صفحات ورقية كبيرة الحجم لينتج قالب لرسم جملة ”أقدر أشوفك“ ثم قام برذ الطلاء الأسود عليها من أعلى سلم.

ويبرز على نحو استثنائي رسم ”أقدر أشوفك“ سواء من ناحية عملية إنتاجه أو من ناحية حجمه الضخم. وقد أثار مكان عرضه العالي فوق عمارة تشرف على شارع رئيسي مستخدم لعبور المدينة موجة من الشائعات وكان وراء اهتمام الناس بالمدينة ومحور الأحاديث والدردشات على وسائل التواصل الاجتماعي إذ انهمك السكان يتناقشون متسائلين عن هوية الفنان الذي أنجز الجرافيتي (وفي وقت لاحق قدّم عباس نفسه علنًا بوصفه صاحب العمل). بعد إحساسه بالإحباط جراء الفساد السياسي والعنف المتغلغل في العراق، اختار عباس ذلك الموقع الاستراتيجي. وبينما يشير الضميران ”أنا“ و ”انتم“ إلى الصفة الشخصية فإنّ موقع عرض العمل يشير إلى فحوى الرسالة وإلى متلقي الرسالة.

يطل المبنى على المنطقة الخضراء أو ما يسمى كذلك المنطقة الدولية، وهي مساحة تبلغ أربعة أميال مربعة في وسط بغداد استخدمت سابقا مقرًّا للحكومة قبل عام 2003 ثم تمّ تسييجها بجدار عازل لتصبح منطقة مؤمنة لقوات الاحتلال الأمريكي ومقر الحكومة الانتقالية المؤقته. وترمز المنطقة باختصار إلى الانفصال الجذري بين الحياة اليومية في بغداد : انقطاع للكهرباء وتفشي الجريمة والسيارات المفخخة وعمليات الاختطاف من ناحية، ومحركي الدمى من ناحية أخرى الذين يخلقون هذه الأوضاع ويديمونها مع كل قرار سياسي يتخذونه. وإذ يقرّ عباس ببنية هذا النفوذ فهو يقلبه مؤقتًا من خلال اختياره للضميرين اللغويَّين.

يشكّل حضور الجملة ”أقدر أشوفك“ تحذيرًا يوحي بدينامية مختلفة: ها قد تحوّل سكان المدينة (”أنا“ في العين البشرية) إلى مراقبين بعين ساهرة، قد توحي كذلك بالعين الشريرة. وكما هي حال معظم الرسوم الجدارية لم يعمّر جرافيني ”أقدر أشوفك“ طويلا ونسمع في الفيلم الوثائقي تسجيلا صوتيًّا لضباط يطلبون من عباس إزالة الرسم على الجدار الخارجي لمنزله في مدينة الصدر ببغداد، إذ رأت فيه دوريات الجنود الأمريكيين تهديدًا، وقد قام الضباط بتفتيش منزل الفنان وصوروا ساكنيه بهدف التوثيق الرسمي. ويتأمل عباس هذا الحدث ليخلص إلى أن تلك التجربة مثلت في الواقع ”أول عرض لي للجمهور“ حسب تعبيره. [2] ويبرز تعليق عباس المفاوضات المشحونة التي تجري بين الفضاء العام والفضاء الخاص في بغداد المعاصرة. وعندما تسوء الظروف لدرجة أن الحرب تجتاح المنزل لا يتبقى عندئذ للفنان سوى فضاءات قليلة باستثناء الشارع لإنتاج أعماله الفنية وللتواصل مع جمهوره. في قطعة ثانية من عام 2011 عرضت في هذا المعرض، يوجه عباس رسالته إلى الشباب العراقي. ومرة أخرى ، يصور عباس ، بالطلاء الأسود، مجموعة من الأطفال العراقيين يتفاوتون في الطول والسن، متجمعين وهم يمسكون رشاشات وأسلحة. ويظهر السؤال: ”ماذا تريدون أن تكونوا؟“ مكتوب باللغة العربية هنا يغير عباس صوته ، لا يتحدث باسم الشباب ، بل يسأل الأولاد الصغار السؤال.. هؤلاء الأولاد الذين نشأوا في ظل الحرب والاحتلال فاستبدلوا براءة طفولتهم بالعنف الذي يحتل حياتهم. ومن خلال اختياره ضمير المخاطَب ”أنت“ يعيد سؤال عباس فاعلية الرغبة إلى الأطفال بأن من واجبهم أن يتخيلوا مستقبلهم. وفي عام 2013 أي بعد مرور سنتين، عاد عباس لتوظيف التكتيكات نفسها في مشروع جرافيتي بارز للعيان وبجهد كبير.

على قمة بناية باهتة بنّيّة اللون تغطيها السقالات تظهر عين بشرية عملاقة مرسومة بالحبر الأسود تحملق مباشرة باتجاه المدينة الصاخبة في الأسفل، وهي تجلب الانتباه بهيئتها الواقعية وتفاصيلها. وعند أسفل الرسم كُتبت بحروف سوداء ثخينة على حافة العمارة وإلى جانبَي العين الجملة العربية ”أقدر أشوفك“. ويلتقط شريط فيديو وثائقي بالصوت والصورة الجهود الجماعية الهائلة التي بُذلت لإنتاج ”أقدر أشوفك“. رجال يعملون سويًّا في لحام السقالة المعدنية التي يتدلى منها القماش الأبيض العملاق الذي طبع عليها عباس رسم العين البشرية. اقتطع الفنان الحروف العربية من صفحات ورقية كبيرة الحجم لينتج قالب الرسم للجملة ”أقدر أشوفك“ ثم قام برذ الطلاء الأسود عليها من أعلى سلم.

Sajjad Abbas, 'I Can See You', Video projection, Baghdad, Iraq, 2013, ©Sajjad Abbas

ويبرز على نحو استثنائي رسم ”أقدر أشوفك“ سواء من ناحية عملية إنتاجه أو من ناحية حجمه الضخم. وقد أثار مكان عرضه العالي فوق عمارة تشرف على شارع رئيسي مستخدم لعبور المدينة موجة من الشائعات وكان وراء اهتمام الناس بالمدينة ومحور الأحاديث والدردشات على وسائل التواصل الاجتماعي إذ انهمك السكان يتناقشون متسائلين عن هوية الفنان الذي أنجز الجرافيتي (وفي وقت لاحق قدّم عباس نفسه علنًا بوصفه صاحب العمل). بعد إحساسه بالإحباط جراء الفساد السياسي والعنف المتغلغل في العراق، اختار عباس ذلك الموقع الاستراتيجي. وبينما يشير الضميران ”أنا“ و ”أنت“ إلى الصفة الشخصية فإنّ موقع عرض العمل يشير إلى فحوى الرسالة وإلى المتلقي. تُشرف العمارة على المنطقة الخضراء أو ما يسمى كذلك المنطقة الدولية، وهي مساحة تبلغ أربعة أميال مربعة في وسط بغداد استخدمت سابقا مقرًّا للحكومة قبل عام 2003 ثم تمّ تسييجها بجدار عازل لنصبح منطقة مؤمنة لقوات الاحتلال الأمريكي ومقر الحكومة الانتقالية العراقية المؤقتة. وترمز المنطقة باختصار إلى الانفصال الجذري بين الحياة اليومية في بغداد انقطاع للكهرباء وتفشي الجريمة والسيارات المفخخة وعمليات الاختطاف من ناحية، ومحركي الدمى من ناحية أخرى الذين يخلقون هذه الأوضاع ويديمونها مع كل قرار سياسي يتخذونه. وإذ يقرّ عباس ببنية هذا النفوذ فهو يقلبه مؤقتًا من خلال اختياره للضميرين اللغويَّين.. يشكّل حضور الجملة ”أقدر أشوفك“ تحذيرًا يوحي بدينامية مختلفة: ها قد تحوّل سكان المدينة (”أنا“ في العين البشرية) إلى مراقبين بعين ساهرة، قد توحي كذلك بالعين الشريرة. . وكما هي حال معظم الرسوم الجدارية لم يعمّر جرافيني ”أقدر أشوفك“ طويلا ونسمع في الفيلم الوثائقي تسجيلا صوتيًّا لضباط يطلبون من عباس إزالة الرسم. وها نحن نشاهد مجددًا وبإعجاب إبداع عباس وشجاعته وهو يتسلق السقالة وصولاً إلى أعلى البناية لإزالة العمل الفني ووضع طبقة من الطلاء فوق الكتابة لطمسها، بينما يسأل رفقائه مرارا وتكرارا: ”هل قمتم بالتسجيل؟“

في عام 1951 وخلال العرض الافتتاحي لجماعة بغداد للفن الحديث، أعلن العضو المؤسس والفنان شاكر حسن آل سعيد عن تأسيس مدرسة جديدة للفن التشكيلي واصفا المشروع الإبداعي الجماعي بأنه يسعى لابتكار فن وطني عراقي يكون أمينا على تراثه البصري المميز وفنا حديثا في الوقت نفسه. كانت لحظة فارقة في تاريخ الفن الحديث في العراق. يعترف الفنانون ومؤرخو الفن بجماعة بغداد للفن الحديث بصفتها واحدة من أكثر الجماعات الفنية تأثيرًا في الوطن العربي، حيث تصور الفنون البصرية وسيلة يمكن من خلالها تطوير الشعب العراقي وبالتالي المساهمة في مشروع عالمي. ورغم وجود جماعات فنية سابقة تشكلت على مدى العقود الماضية في بغداد، إلاّ أنّ فناني جماعة بغداد للفن الحديث أسهموا في جعل خمسينات القرن العشرين فترة حاسمة في تاريخ الفن في العراق، وفي تطوير هوية وطنية من خلال تأسيسهم للبنية التحتية للفنون البصرية. [3]

بعد نصف قرن فقط، انهارت تلك البنية التحتية: نُهبت المتاحف وأغلقت صالات العرض وتشرد الفنانون في المنطقة وخارجها. [4] ومع ذلك، وكما يشهد هذا المعرض، بقي الإنتاج الفني صامدًا في جيوب صغيرة في بغداد بينما كانت الحرب تعصف بها. ولهذه الجدلية بين الدمار والإبداع وبين العنف والفن الكامنة في قلب هذه المجموعة من الأعمال إرث طويل في تاريخ الفن، من اللوحات الشهيرة للثورة الفرنسية إلى احتضان الحرب والتكنولوجيا كمجدد للثقافة في تيارات القرن العشرين على غرار المدرسة المستقبلية.

ولا يوجد مكان تشهد فيه هذه الجدلية حضورًا أكثر من عالم الفن المعاصر حيث يكافح الفنانون لمواجهة الصراع العالمي. يؤرّخ النقاد وأمناء المتاحف في الوطن العربي الممارسات الفنية المعاصرة المرتبطة بالحروب في أوائل التسعينات، عندما ركّز عدد من الفنانين اهتمامهم خلال فترة ما بعد حرب لبنان على السجلات والنظريات والجماليات المستقاة من الأرشيف، ولاسيما تلك المتعلقة بسجلات الحرب الأهلية اللبنانية 1975–1990) []. [5] في الآونة الأخيرة، حشد الفنانون المعاصرون في سوريا أشكالا فنية، لاسيما الجرافيتي والفيديو والفنون الرقمية، لرفع أصواتهم في غمرة الحرب الأهلية التي دمرت البلاد منذ عام 2011. [6] وبينما تميّز التركيز الفني في لبنان ما بعد الحرب بمقاربته النقدية للأرشيف والتاريخ والذاكرة، فإنّ الإنتاج الفني في سوريا خلال الحرب الأهلية استحق نعت جماليات المشاهدة. ويمكن أن نفهم أعمال عباس وداير ضمن هذا الإرث التاريخي الفني الممتد زمنيا لفترة أطول، وكذلك ضمن التراث الإقليمي: جيل من الفنانين مثلت لهم الفنون البصرية منتدى نقدي للتعبير في خضم الأوقات السياسية والاجتماعية المضطربة، سواء كان ذلك أثناء الحرب أو مباشرة بعدها وما تبع ذلك من عواقب غير آمنة

غير أنّ الأعمال الحاضرة في هذا المعرض ”حدود المدينة“ لا تمثل جماليات الأرشيف، أي تلك التي تنظر إلى الماضي لتتأمّل، ولا يمكن كذلك وصف أعمال داير وعباس بكونها من جماليات المشاهدة التي تفترض الملاحظة. وبدلاّ من ذلك فإن مشاريع داير وعباس تتسرب داخل بغداد لتصبح جزءًا من النسيج الحضري للمدينة. يتميز الفن في هذا المعرض بحضوره الحميمي هنا والآن، وهو بذلك يوحي بجماليات الحس العابر أو جماليات اللحظة. بينما يلتهم العنف بغداد حتى يكاد يبتلعها بالكامل، يتناول عباس وداير قميصأ ملطخا بالدم أو مدينة مهجورة أو حائطا منسيا أو ساحة خردة للسيارات ليبدعا قطعة فنية ليس الغرض تأمّلها بهدوء في سكون معرض للفنون، بل هما يصوغان لحظة يمكن فيها لسكان المدينة التجمع مع بعضهم حول أطراف بغداد الممزقة ويعيدوا لأنفسهم اكتشاف حدود المدينة.

العودة إلى صفحة المعارض هنا

المراجع:

1 يمثل استخدام عباس الاستراتيجي للضمائر صدى لأعمال الفنانة المفاهيمية الأمريكية بربارا كروغر التي حصلت على اعتراف بعملها في ثمانينات القرن العشرين بفضل صورها بالأبيض والأسود التي رسمت فوقها جملا توضيحية تستخدم الضمائر لمعالجة البنى الثقافية للسلطة والنفوذ والجنس.

2. سجاد عباس، ”جرافيتي بغداد“، http://shakomako.net/art/baghdad-graffiti/

3. حول تطور الفن الحديث ومساهمات مجموعة بغداد للفن الحديث ، راجع ندى شابوط ، ”حلم نسميه بغداد“ ، في الحداثة والعراق (نيويورك: جامعة كولومبيا ، 2009): 23-40 وشبوط ، ”جمع الفن العراقي الحديث، في المحفوظات والمتاحف وممارسات التجميع في العالم العربي الحديث“، سونيا ميشر-أتاسي وجون بيدرو شوارتز (إنجلترا: Ashgate Publishing ، 2012): 197-210.

4. للحصول على دراسة حالة عن دور الفنانين العراقيين في الشتات، راجع مي مظفر ، ”الفن في المنفى: مراحل تطوير حديثة للفن العراقي الحديث كما يُنظر إليه من عمان ، 1991-2005 ،“ ورقة غير منشورة ، 2006.

5 للحصول على توصيف مبكر لفن ما بعد الحرب في لبنان من قبل قيمين دوليين، انظر كاثرين ديفيد، ”التعلم من بيروت: الممارسات الجمالية المعاصرة في لبنان ،“ ”في أشغال منزلية: منتدى حول الممارسات الثقافية في المنطقة“ (بيروت: الجمعية اللبنانية للفنون التشكيلية ، أشكال ألوان ، 2002): 32-38

6 راجع المقالات بقلم مالو هالازا وزملائه سوريا تتكلم: فن وثقافة من

سارة روجرز هي عالمة مستقلة وعضو مؤسس ورئيس منتخب لرابطة الفن الحديث والمعاصر في العالم العربي وإيران وتركيا (AMCA).

تشارك حاليا في تحرير الوثائق الأولية : الفن الحديث في العالم العربي“، والذي سيقوم متحف الفن الحديث في نيويورك بنشره في خريف عام 2017. حصلت سارة على درجة الدكتوراه عام 2008 في التاريخ والنظرية والنقد من قسم الهندسة المعمارية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، حيث كانت أطروحتها بعنوان فن ما بعد الحرب والجذور التاريخية في بيروت االعالمية.

error: Content is protected !!

Learn about our open and past events

Explore new perspectives on art and design from
our community and our international contributors

تعرف على معارضنا وفعالياتنا الحالية والسابقة